بدأت حملة "مسموع" مع بداية حظر التجول.
إنّ فكرة الحملة بسيطة: إذا كنتَ رافضاً للاختيار بين التجارة باسم الدين، وبين دولة مبارك باسم الوطنية فإنّ السكوت ليس موقفاً. ليكنْ صوتك مسموعاً. وفي الساعة التاسعة من كلّ ليلة اقرعْ على إناء، أو أية أداة تصدر صوتاً رنّاناً لمدة خمس دقائق. أعلنْ موقفك وادْع الآخرين، قلْ لهم إن اعتراضك على أفعال وجرائم الأطراف المختلفة لا يعني أنك تساوي فيما بينهم في كلِّ شيء، وإنهم يمكن أن يكونوا مخطئين، لأسباب مختلفة، ولكنهم لا يمثلونك في جميع الأحوال.
سيُسْمَع صوتك ويصبح مشهوراً مع مرور الوقت، وستكتشف أن هناك أشخاصاً لم تكن تعرفهم يشاركونك الرأي، وأنك لستَ وحيداً. بعد أسبوع واحد سُمع صوت حملة "مسموع" في أحياء كثيرة في القاهرة والإسكندرية ومارينا والإسماعيلية والمنيا وحتى في بعض تجمعات المصريين في الخارج. وبعد ستة أيام فقط تجاوز عدد الذين عبّروا عن إعجابهم عبر اللايك على صفحة الفيسبوك الخاصة بالحملة ستة عشر ألفاً. لُحِّنتْ أغان، وانتشرت فيديوهات، ووُزِّعتْ صور، واجتمع الناس في البيوت، وساروا في الشوارع كمسحراتي رمضان كي يوقظوا النائمين.
لماذا؟ لأننا ببساطة مُصْمَتون. لم يذكر الإعلام المصري الأمر، ونحن لجأنا إلى الصمت، لأن الطرفين تبنيّا خطاب جورج بوش، أكبر سفاك للدم العربي، والذي قال:"إما أن تكونوا معنا أو ضدنا في الحرب على الإرهاب". فكِّرْ دقيقة. انْسَ الأمن والدولة والإخوان وركِّز على البلد. فكّر بالمستقبل، بمبادئنا وفي ما نحاول تحقيقه. إذا لم نتوقف ونفكّر ونعترف بتعقيدات وتناقضات الوضع الحالي فإننا سندفع الثمن، وسندفع دماً كثيراً، دمنا جميعاً.
حين نصمت، ونبسّط الأمور، نقول هنا طرف وهناك طرف، سرعان ما نجد أنفسنا قائلين: هم شرّ ونحن خير، وإذا لم يقتلونا يجب أن نقتلهم، ونقضي عليهم لأنه إذا لم نفعل ذلك فإنهم سيقضون علينا. دمنا مقابل دمهم... دمنا مقابل دمكم. وهذا هو الطريق الذي يجعل المصريين يغرقون جميعاً في الدم. قد يحصل هذا في حرب أهلية، أو في أعوام طويلة من التفجيرات والمداهمات. ولكن في الحالتين فإننا سنخرّب اقتصادنا أكثر، وسنخسر جيلاً، جيلاً من المواطنين المصريين والجنود المصريين، وسيضيع البري ء مع المذنب.
إن مشكلة السكوت هي أنه يمكن أن يُفهم منه أي شيء: "إن السكوت علامة الرضا"، مثلاً. هل الناس ساكتون لأنهم موافقون على ما يحصل؟ أم لأنهم خائفون؟ أم لأنهم مكتئبون ومحبطون ولا يعرفون ماذا يفعلون؟ وربما خائفون لأنهم إذا صرخوا بصوت مرتفع سيُهاجمون؟ أو لأنهم يجهّزون للانتقام؟ أو ببساطة لأنهم تعبوا ويرتاحون؟ أو من يدري، ربما الناس ساكتون لأن الحظر منحهم في النهاية فرصة أن يسمعوا وهم ما زالوا مستيقظين صوت أرض بلدنا؟ أو ربما ساكتون لأنهم يحاولون إقناع أنفسهم أن المرحلة المظلمة هذه ستوصلهم إلى النور.
لا يوجد مسألة بسيطة، ولذلك نطالبكَ بأن تفكّر بينك وبين نفسك وبأمانة. إن أصعب موقف يتبناه المرء في هذه الأيام هو أنه ضد الطرفين، أو حتى أنه فيما إذا قد اختار طرفاً يكون قلقاً ولديه تحفظات بعضها كبيرة. إن الهجوم الشرس عليك من طرف واحد صعب، فما بالك لو كان من الطرفين في الوقت نفسه. لكن لو حاولنا أن نرد على الطرفين في الوقت نفسه ماذا سنقول؟
قد نقول إن ثورتنا كانت تبحث من البداية عن أرضية مشتركة، عن مصر تجمعنا كلّنا رغم اختلافاتنا الجذرية، لا يُسْتبعد أو يُقصى فيها أحد، ومن أجل الوصول إلى هذا التوافق دخل الناس في اتفاقات وتحالفات كي يؤسسوا موازين القوى من أجل تهدئة البلد قليلاً، والانتقال من مرحلة الثورة لمرحلة الإصلاح.
وصلنا إلى الجيش ومعه الإخوان، والإخوان مع الثورة، والجيش مع الثورة، والثورة وحيدة ضد الإخوان والجيش، وحتى الثورة مجزأة وملتبسة. في 25 كانون الثاني (يناير) كان هناك تصور حول المستقبل، وعلينا أن نعترف أنه لم يكن فيه مكان لفلول نظام مبارك، وفي 3 تموز (يوليو) كان هناك تصور للمستقبل وعلينا أن نعترف أنه لم يكن فيه مكان للإخوان.
كي نتخطى أزمتنا يجب أن نغيّر خطابنا ونطور خطاباً جديداً، ويجب أن نبتعد، جميعاً، عن كثير من مسلماتنا الفكرية، فالخطاب لا يتطور في العزلة والصمت، بل يتطور حين يعلن الناس آراءهم، ويتعرضون للمساءلة والتحدي فيدافعون عنها أو يغيّروها.
منذ كانون الثاني (يناير)2011 احتجز الجيش والشرطة أبرياء وعذبوهم وقتلوهم، وكذلك احتجز الإخوان أبرياء وعذبوهم وقتلوهم. وفي 19 آذار (مارس) 2011، دعم الجيش والإخوان إعلاناً دستورياً رسم المسار السياسي الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه: انحل البرلمان، وتوقف الدستور، وعُزلت الرئاسة. وآثار الدم على كل مرحلة. تذكّرْ الإعلان الدستوري وكيف أن الجيش ادعى أنه علينا أن نقول "نعم" من أجل الاستقرار، وكيف كان مخطئاً. وفكّر بتجار الدين، وكيف ادعوا أنه علينا أن نقول "نعم" كي لا نكون كفاراً. وهذا الخطاب المبسط أدى بنا على مدار الشهور للفوضى ولحرق الكنائس وللدم. فخطابنا هو الذي يخلق مسار الأحداث.
تذكّروا محمد محمود ومجلس الوزراء؛ المعركة التي واجهت فيها الثورة الجيش والشرطة والإخوان معاً. الأعين التي ضاعت، الأجساد التي رُميت في القمامة، الفتيات والسيدات اللواتي ضُربْنَ وسُحلْنَ، فيما الإخوان أكدوا أنه ما من دليل على استخدام الرصاص وهم يهتفون "الجيش والشعب يد واحدة"، ونسوا الدم كي يصلوا إلى البرلمان الذي قعدوا فيه ستة أشهر بدون أن يستفيدوا أو يفيدونا.
خطابنا يخلق مسار الأحداث. ماذا لو كان هتافنا في بدايات الثورة: ارحلوا بدلاً من ارحلْ. إن خطابنا يخلق مسار الأحداث.
الشعب يريد اسقاط النظام
إن الجيش والشرطة مخطئان، والإخوان وتجار الدين ليسوا على صواب أيضاً: هذا ما يجب أن نقوله بصوت مرتفع كي نقدر على بناء مستقبلنا. إن كل من وصل إلى الحكم لم يتفهم مبادئ ثورة ٢٥ كانون الثاني (يناير)، وتصوُّرها عن العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، المساواة في الحقوق والحريات، القضاء المستقل، والصحافة الحرة، حرية تكوين أحزاب ونقابات، حرية التجمع، حرية التعبير عن الرأى والحق في الأمن والحماية.
لكن حتى لو لم نوافق على رؤية الذين وصلوا إلى حكم البلد بعد الثورة، ورأينا أنها رؤية خاطئة، من غير المفيد أن نقصيهم. يجب أن نفهم أنه من الضروري أن يكونوا جزءاً من مستقبلنا. ليس من المفيد أن نسكتهم كما أسكتونا. علينا أن نتفهم مخاوفهم رغم أنهم لم يتفهموا مخاوفنا. ينبغي أن نحترم قتلاهم رغم أنهم لم يحترموا قتلانا، إنّ "مسموع" حملة للخروج من فخ الثنائية، فخ الطرفين. أول خطوة هي أن تصدر ضجة الساعة التاسعة مساء كل يوم. لقد أثبت الشارع أنه ضمان مسارنا وسيبقى ضمان مسار البلد، ولكنه وسيلة من وسائل الوصول لأهدافنا وليس المسار كله.
إن صمت الشارع في غيابنا الآن لا يعكس الواقع الذي في القلوب. إن مشاركتك في حملة "مسموع" مسألة أكبر بكثير من النقر على الآنية: أنت تساعد في تطوير خطاب مختلف، تساعد في بناء تجمع من الناس، وتشارك في تأسيس أرض نقدر أن نمشي عليها كلّنا، تبقى جزءاً من احتجاج يمكن أن نشترك فيه كلنا من الكنبة إلى الصفوف الأمامية. تعلن أنك تضع ثقتك في الشعب، وأنه رغم أنك تجهل كيف تصل إلى هدفك إلا إنك مؤمن بحكمة هذا الشعب وضميره. طريقنا ليس طريق الدم، ولو كان فيه دم، فإن طريقنا ليس مبنياً على أننا لو قتلنا الناس بما يكفي سنسَكِّت أصواتهم؛ إن طريقنا يدعو إلى أن تكون جميع الأصوات مسموعة.إنّ واجبنا الآن هو وقف تصعيد العنف بكل الطرق الممكنة. ولكن لا معنى لأن نستحث الطرفين على نبذ العنف وهم يحملون السلاح، وأننا لا يُحسب لنا حساب لأننا صامتون. إن الشيء الوحيد الذي يجعلهم يرمون السلاح هو أن يتأكدوا أن هذا من مصلحتهم، أن يعرفوا أنهم لو استمروا في العنف سيخسرون. وكي يعرفوا هذا يجب أن تكون أنتَ مسموعاً. حين يرفع عدد كاف منا صوته يمكن أن يدرك الطرفان أننا قوى لا يُستهان بها، وأن المسار الذي يجروّننا إليه ليس مسارنا. وحين يفهمون هذا فعلاً، يمكن أن يتخلوا عن العنف، أو على الأقل أن يحسبوا حساباً لوزننا الحقيقي، قبل أن يقتلوا.
لن يبدأ الحوار إلا في غياب العنف. ومع كامل احترامنا لمبادرات الحكومة، نعلم علم اليقين أن أية خطة أو اقتراحات تُقَدَّم اليوم من جانب واحد لن يقبلها الجانب الآخر بعد كل الدماء التي سالت. إنّ المسار الوحيد هو المسار الذي يتفاوض عليه ويرسمه جميع الأطراف سوية، وصولاً إلى كتابة الدستور بدون إقصاء. فالمشكلة هي في تفسيرنا للديمقراطية، وتعاملنا معها حتى الآن. نحن نعكس الصورة: إنّ الديمقراطية آلية تتضمن أنّ الذي في السلطة يهاب المواطن، ويحسب له ألف حساب، غير أننا نحن الذين نخلق من الذين في السلطة قوة نخاف منها ونحس بجميلها. جعلنا من الدستور أداة لخدمة مصالح القادرين بحكم سلطتهم، والمفروض أن يكون أداة لحماية حقوق غير القادرين بسبب ضعفهم. لو عدلنا الصورة لن نبقى قيد البحث عن أحد يحس بنا، ولكن أيّاً من كان في السلطة سيكون مضطراً كي يسمعنا وإن من يحسّ بنا سيكون قادراً على أن يستقوي بنا.
هذه هي المفاهيم الأساسية لحملة مسموع: أن تكون مسموعاً في بلدك ويُحْسَب لك حساب في السياسات الاقتصادية والاجتماعية وفي تحقيق العدل. وهذا أحد المفاهيم الأساسية في الديمقراطية، وهو الذي ينشئ برلماناً يمثل شعبه بشكل حقيقيّ، ومسار ديمقراطي سليم ونقابات تمثل أعضاءها، وإعلام حرّ. فيكون الذي يمثلك يمثلك على نحو صحيح وعلى أساس صوتك المسموع. يجب أن يكون صوت الفقير والمهمش مسموعاً كصوت الغني والقادر، وبناء على هذا المفهوم نبني نظاماً قابلاً للتأقلم والتطور بطريقة تجعله قادراً على تحسين أوضاع البلد.
لن ننام بالطبع ونستيقظ كي نرى أن الدنيا صارت مثالية. في الحقيقة نحن في هذا الوقت نرى أننا نناضل من أجل أن يتربى الجيل القادم في بلد يشعر أنها تستحق عمره. لا أكثر ولا أقل: نحاول أن نقوم بعمل يجعل الحل الذي بعدنا قادراً على أن يعمل في بلدنا عملاً نفتخر به كلنا.
كلما انتبهنا اليوم،
كلما كنا أمناء اليوم،
كلما تكلمنا كلمة الحق اليوم،
سنصل بسرعة أكبر إلى ما نحن بحاجة إليه.
يجب أن نكون مسموعين وسط الصمت وإلا فإن مستقبلنا سيبقى مثل حاضرنا، لأننا فضّلنا الصمت على الصراخ وسط بحار الدم. إن "مسموع" دعوة مبنية على حلم 25 كانون الثاني (يناير)، وهي دعوة لجميع الذين يرون أن الانقسام الحقيقي في مصر ليس بين تنظيم الإخوان ودولة الأمن، بل بين الذين يحاربون من أجل نظام سلطوي عتيق من ناحية، وحركات اجتماعية متفرقة لها توجهات إنسانية من ناحية أخرى. انضمّ إلينا من مكانكَ. شاركْ في التاسعة مساء من كل يوم، وخلِّ صوتك مسموعاً معنا كجزء من كفاحك الأكبر.
[نشرت هذه المادة للمرة الأولى على جدلية بالإنجليزية ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين ”جدلية“ و”مدى مصر“.]